منطقة الهيشرية /سيدي بوزيد : قرية تحتضر خارج تغطية الدولة التونسية .

تركب النقل الريفي و تتجه صوب قرية  ولدتك فيها  امك ذات شتاء ديسمبريّ ، تصل الثامنة ليلا ، لا يمكنك التنقل بين الثنايا الجبلية المطلة على الجغرافيا الملونة بظلام النسيان .  هنا ضربت العاصفة ، سبعة دقائق فقط كانت كافية لتعمّق الام القرويين و تعصف بفرحتهم و مالهم وممتلاكاتهم البسيطة . كل شيء اضحى خرابا حتى نفسية السكان  عشش فيها اليأس و تعمّق .
اسبوع بدون ماء و لا كهرباء
امام المنازل وفوق بقايا الاشجار وُضعت بعض لحوم الدجاج في شكل شرائط " قدّيد " و شرائح الطماطم و بعض الخضار . الماء لونه اخضر فقد أوتييَ به من " فسقيّات طبيعية " من وسط الجبل ، هي لغسل الثياب و الاجساد و لكنها للشرب كذلك .
جمل و كلمات قد تحمل قارئها الى بعض نصوص الانتروبولوجيا والسوسيولوجيا وتطرح عديد الاسئلة حول الاقتصاد السياسي ومفاهيم الاكتفاء الذاتي و غيرها . حتى المشهد اضحى سياحيّا جدّا ، لا بل سياحيّا ايكولوجيّا ، فقط ينقص ان نكتب اعلانا و فيه نقول " ان اردت ان تحيا حياة القبصيين و الاتيريين و الموستيريين و القدامى ، تعالى الى الهيشرية لن تكون الا بدائيا في كل شيء و لكن احمل معك بعض الادوية فربما ان فاجأك المرض تجد ما تقتاته من زمن الحضارة " .
لا تلفاز و لا هاتف جوال و لا سيارة و  لا انترنات و  لا ثلاجة  ، كل شيء صنعه الانسان قبل و بعد الثورة الصناعية  غير موجود ، فقط الناس و ممتلكاتهم من نعجات و معزات و بعض الحمير و الاحصنة و الدجاج و فرشات و حشرات و مايوجد في الجبل من ثعالب و خنازير .
ابي صنع بعض الجبن و قدمه لنا ، اخبرته ان ثمنه في فرنسا باهض جدا ، ابتسم و اخبرني :"  كول كول و اسكت ... الي مايدريش اقول سبول " .   
عائلة عمّي طبخت كل اللحوم التي كانت تخبئها لابنائها حين يعودون نهاية الشهر لقيموا وليمة ، تم طبخ كل شيء لانه مهدّد بالتعفّن في غياب الكهرباء ، الكل اكل اللحم ، حتى كلاب الحراسة ثملوا جدا من اللحم ، لحم لم يتذوقوه من سنوات.
المشهد رومانسي جدا ، الشموع هنا و هناك تمتع ناظرها حقّا و لكنها مفقودة بعض الشيء. السكان يتوجهون الى معتمدية بير الحفي لجلبها ، اضحى ثمنها غاليا بعض الشيء و هذا هو الاحتمار حقيقة ، ابي حدثني انه اشترى 4 شمعات ب2.5 دينار . و لكنها اللوحة ممتعة حقا  و بهيّة المنظر ، اخبرتكم ان القرية اضحت سياحية جدا حتى انها تجاوزت مدينة هيركيلانوم الايطالية .
المشهد سرياليّ جدّا تزيد قتامته المأساة القائمة في الهيشرية ... كل الامكانياتالاقتصادية خاصة منها الفلاحية دمرتها العاصفة ،  الحقول عبثت بها الرياح و اقتلعت النباتات من خضر و غلال و تكسرت جذوع الاشجار ، العدّاد الاقتصاديّ عاد للصّفر.  
لن نطيل اكثر ... نصمت في حضرة الخراب ... و لكن اخبرني سائق سيارة النقل الريفي انه قيل ان الدولة ستقدم خمسمائة دينار لكل فلاح و لكن ماتفيد حفنة الدنانير هاته امام نهاية كل عائل اقتصادي للسكان خاصة لدى صغار الفلاحين ، مالذي سيفعلونه  حقيقة امام غياب تام للدولة هناك .
الهيشرية هي الجغرافيا التي تتبع سيدي بوزيد المدينة و لكنها تبعد عنها اربعون كيلومتر ، لا هي معتمدية و لا هي بلدية و لا هي اي شيء و لا اي هيكل مؤسساتي ، هي مجلس قروي ، و لكن عن اي مجلس نتحدث و السكان يتجاوزون العشرين الف و الاحتياجات تتجاوز ما تقوم به معتمدية كبيرة ... موضوع اللامركزية الجهوية يتجاوزنا ليصل الى اهل الاختصاص الحاضرين في الهيشرية بالغياب الابديّ .
لو نتحدث عن المرض و عن المستوصفات و عن الادوية ، في غياب الكهرباء يبطل الحديث حقيقة في قرية تصل فيها نسبة شيخوخة مجتمعها الثمانون بالمائة .
لو نتحدث عن التعليم هناك ، سؤال نطرحه في ضخامة عدد التلاميذ قامت الدولة ببناء معهد ثانوي يقي السكان عناء التنقل اربعون كيلمتر الى معاهد بوزيد المدينة و لكن وقفت الاشغال في منتصفها بتعلّة ان الدولة اشترت الارض من بعض المالكين و البعض الاخر لم يوافقوا او ان البعض احتج و طلب تشغيل ابنه في المعهد الثانوي ، ان صحّ الخبر الاوّل لنتساءل كيف تقيم الدولة مشروعا في ارض ليست على ملكها ودون موافقة مالكها و هذا ما لا نقدر على تصديقه و ان كانت الدولة تراجعت بعد احتجاج البعض عن التشغيل كيف يصح ذلك و هذا مالانصدّقه ، و يظل السؤال : لماذا توقفت الاشغال ؟؟

فقط نختم جولتنا هذه ، ب" لويذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا " و لو تذكر الهيشرية مأساتها لصار الزمن بدائي جدا .



0 commentaires:

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Affiliate Network Reviews